كلمات عن أمّي.

18 - أكتوبر - 2014 , السبت 04:30 مسائا
3812 مشاهدة | لا يوجد تعليقات
الرئيسيةمروان الغفوري ⇐ كلمات عن أمّي.

مروان الغفوري
مروان الغفوري
اقترب الحوثيون من تعِز. باستعلاء فارع الطول قالوا إنها فقط تعِز. من يملك البندقية يملك العالم، يظن الحوثي. من يملك المعرفة يكسب كل معاركه، تظن تعِز.
يعتقد الحوثيّون أن تعِز مجرّد محافظة يتلقى فيها المرء قدراً من العلوم والمعارف ثم يذهب إلى صنعاء ليبيع خبراته في سوق السياسة الأسود. هذا الظن ليس بلا دليل. فقد نجح الحوثيون كما نجح صالح في اختراق المحافظة، وتفكيك نخبها. لقد اشتروا منّا أناساً كثيرين، "وحمّلوها وسارت بالهوى الإبلُ". هذا الاختراق ظلّ محدوداً للغاية. كان المثقف، على الدوام، يعتقد أنه نصف إله. قد يبيع خدماته في ظروف بعينها لكنه لا يبيع عقله. يحاول، أحياناً، أن ينسى فقره لكنه لا ينسى الكتب التي قرأها. المثقف الذي دخل على صالح في عملية فهم منها أنها جلسة بيع الولاء كان قادماً للتو من لدن غوته، مونتسكيو، روسّو، بودلير، دويستوفيسكي، كامو، غونتر غراس، إلخ. وكان صالح، كعادته، قادماً من صحبة ياسر اليماني، العزي، الدجُف، العوبلي، البركاني. نظر الرجلان إلى بعضهما. في أعماق المثقف يتحدث نيتشه، وفي أعماق صالح يهذي ياسر اليماني. خان المثقف ذاته، ولم يبعِها، لكن الديكتاتور كان على الدوام عارياً.
اقترب الحوثي من تعِز. ماذا سيفعل في تعِز؟ كالقرد العاري يخطب في جيل جديد يتدربّ على قصيدة النثر، وما بعد قصيدة النثر. يحدثهم عن الولاية التي وجدها في الكتب القديمة، ذلك الجيل الذي يخوض جدلاً حول المابعديات: ما بعد العلمانية، ما بعد الأحزاب، وما بعد الصناعة. بالنسبة لهذا الجيل فأن كل خطاب للحوثي ليس أكثر من زيارة ممتعة للتاريخ. لكن الحوثي ما إن يخرج من التاريخ حتى يشبه، بالنسبة للأجيال الجديدة في تعز، واحداً من إعلانات ما بعد الحداثة: يتحرّك التمثال داخل تاريخه ويتحدث للمشاهدين مستخدماً لغة ذلك الزمان الغابر. يضحكون. لكنهم أيضاً قد يصابون بالفزع.
اقترب الحوثي من تعِز. قالت أمي إنها تشعر بالخوف. قالت إنها لا تخاف من شجاعة الحوثي بل من جبنه. كتبت لي شقيقتي البارحة على الواتس أب: الأخضر وصل، وضحكت. أمي سيّدة لا تجيد القراءة والكتابة، لكنها تشعر بالخوف. ابنة فلاح طيّب القلب، عالم في النحو والفقه بلا حدود. درّبتنا على نقاء القلب، والخيال. درس خمسة من أولادها في الخارج، وصار اثنان من أبنائها أساتذة جامعة. ليس هذا شأن أمي فقط، وهي ليست حالة نادرة. الأمهات في قرى تعز أنجبنَ أجيالاً عظيمة، خارقة للعادة وللطقوس وللظروف الشرسة. بقروش قليلة صنعنَ أجيالاً قادرة على الوقوف أمام الحضارة. استعنَ بالطبيعة الوعرة، بالسحر والأمطار وخلقن تعز الجديدة. ذلك عندما كان الحوثي يسرق الرعية، ويضيف فقراء جدداً إلى التاريخ.
أمي ليست سوى واحدة من تلك الأمّهات اللائي استجمعنَ كل آلامهنّ في الجبل والوادي، في تعز، وأنجبن أبناء قادرين على المقاومة. التقيتهم في المدرسة، في الشارع، في المحافظات، في المطارات، في الدول. كانوا شجعانا، تركوا تعز منذ زمن يقل أو يزيد، وأحاطوها بعنايتهم. كل شاب ينتمي إلى المدينة / المحافظة يحرص دائماً على أن يكون جديراً بها وبكبريائها. منحناها حبّنا في الطفولة ومنحتنا الشكيمة فيما بعد. الشكيمة، والطريق.
قال لي زميل، طبيب، في رمضان المنصرم إن أمّه قرأت تولستوي في قرية نائية في الحجرية. نظرتُ في عينيه، كان شجاعاً. لا شك أن أمه قد دربته على النقاء والشجاعة منذ الطفولة. أما هو فقد تعلّم أيضاً كيف يتحرر المرء من هواه، ولا يبيع عقله. ثم قرأ دويستوفيسكي، وأكمل الرحلة.
ماذا يريد القرد العاري من تعز؟
جاء بمسلّحين لم يسمعوا قط بالنشيد الوطني، واقترب من المدينة التي ألّفت النشيد، ولحّنته. اقترب من تعِز، البلدة التي على مدار التاريخ كانت تحتشد بسحرها الخاص، بجسارتها العجيبة وتنجب اليمن. لقد أنجبت تلك البلدة اليمن عشرات المرّات، واحتفظت به.
اقترب الحوثي من تعز. تستطيع تعِز أن تبتكر من الوسائل ما يكفي لتحرس شرفها وكبرياء إنسانها المعاصر. وكالعادة ستعيد اليمن إلى القضبان.
لم تنته السردية الجديدة، فلا يزال مخزن اليمنيين عامراً. انتصر الحوثي على اللصوص، وصار صديقاً لهُم. اليمنيون في ساعة ذهول، وغضب. لم يقرروا بعد ما الذي سيفعلونه. لقد حافظت هذه البلدة على وجودها منذ عشرات آلاف السنين. هزمت الطاعون والسيول والغزاة. عاشت، ولم تتذكر من ذلك شيئاً.

كتبت توكل كرمان مقالة في واشنطون بوست ضد الحرب في اليمن ختمتها بجملة: كفاية تعني كفاية. قالت إن هذه الجملة هي ما ينبغي أن تسمعه السعودية من العالم الحر. في نقاشي معها البارحة قلت لها إني أتفق مع جزء كبير مما جاء في مقالتها، غير أن الأسئلة الصعبة لا »

هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟

الإسم:

البريد الإلكتروني :

العنوان :

نص التعليق :
*

مساحة إعلانية

فيس بوك

تويتر

إختيارات القراء

إختيارات القراء